الحمدلله وصلى الله وسلم على رسول الله وبعد:
اعلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاصه كفر، ويكون صاحبه كافرا خارجا من دين الإسلام بالإجماع، ويقتل بعد استتابته أي الطلب منه الرجوع عن ذلك والدخول في دين الإسلام بالشهادتين إن لم يتب، فإن تاب ودخل في الإسلام فلا يقتل عند بعض العلماء ويقتل عند ءاخرين. وحكم من ينكر كون سبّ النبي كفرا أو يشك في ذلك أنه يكفر.
قال الله تعالى: {من كان عدوا لله وملآئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [سورة البقرة] وقال الله تعالى: {قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [سورة التوبة].
روى أبو داود في سننه وغيره عن عكرمة قال: ثنا ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: "أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام"، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر" اهـ.
وفي شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري الشافعي في معرض ما يكفر ما نصه: "أو كذب نبيا في نبوته أو غيرها، أو جحد ءاية من المصحف مجمعا عليها أي على يبوتها أو زاد فيه كلمة معتقدا أنه منه، أو استخف بنبي بسب أو غيره" ا.هـ.
وفي تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للقاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون المالكي ما نصه: "فصل: وكذلك الحكم في سب الأنبياء عليهم السلام -أي أنه من الكفر- قال القاضي عياض: من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلةٍ من خصاله، أو عرَّض به أو شبّهه بشىء على طريق السب والازدراء عليه أو النقص لشأنه أو الغضّ منه والعيب له فهو سابّ، تلويحا كان أو تصريحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذمّ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام أو بشىء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه بشىء من العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، قتل. وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلمّ جرا". اهـ.
وفي رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ما نصه: "قال ابن سحنون المالكي: أجمع المسلمون على أن شاتمه [أي شاتم النبي] كافر وحكمه القتل ومن شك في عذابه وكفره كفر" اهـ.
ثم قال أيضا : "أقول ورأيت في كتاب الخَراج لأبي يوسف ما نصه: وأيّما رجل مسلم سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه أو عابه أو تنقّصه فقد كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك المرأة إلا أن أبا حنيفة قال: لا تقتل المرأة وتجبر على الإسلام". اهـ.
فإن قيل: كيف يكون سب النبي كفرا وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي قال له: "اعدل إنك لا تعدل".
فالجواب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك قتله لأنه لم يكفر وإنما لمصلحة أخرى، أما الحديث فقد رواه البخاري بهذا اللفظ : "حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم اعدل؟" قال عمر بن الخطاب: "دعني أضرب عنقه"، قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدا صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر في نضيّه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم، ءايتهم رجل إحدى يديه"، أو قال: "ثدييه مثل ثدي المرأة"، قال: "مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس"، قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} [سورة التوبة]. اهـ.
فيحتمل أن يكون لمصلحة التألف كما فهمه البخاري، لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرا عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح: "سيخرج أناس يقولون مثل قوله". اهـ كلام ابن حجر.
والله تعالى اعلم واحكم